زاد العالِم
الحمد
لله الملك المعبود ، وأشهد أن لا إله غيره ، شهادة تدخل صاحبها دار الخلود ، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله ، الذي تبوأ مراتب السعود .
أما
بعد ؛ فإن العلماء هم صفوة الناس ، وحملة الدين ، وورثة الأنبياء ، وأصحاب المنازل
الرفيعة في الدارين ، وفضائلهم – على الاستقصاء – كثيرة ، تجدها في مثل «جامع بيان العلم وفضله» ، و«مفتاح
دار السعادة» .
ولا
يخفى أن العالم الذي يحوز هذه الفضائل ، ويدخل في زمرة أصحابها : هو الذي تأصل في
علمه ، ورسخت قدمه فيه ، فصارت له فيه ملكة خاصة ، ومعرفة ثاقبة ، تمكنه من تحرير مسائله
ومباحثه – على
الاستقامة والدقة - ، وتمييز الحق فيها من الباطل .
ومعلوم
أن الله -سبحانه وتعالى- امتدح من وصل إلى هذه الرتبة من
العلماء، وذكرهم في أبلغ مقامات الثناء ، فقال : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾() .
وشرط
الرسوخ –
هذا – هو
الذي اعتبره العلماء –
سلفا وخلفا - ، فلا يكون الرجل
–
عندهم –
عالما إلا باستيفائه .
فقال
الإمام عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- : «لا يجوز أن يكون الرجل
إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح»() .
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- : «العلم نور يقذفه الله في القلب، يفرق به
العبد بين الخطأ والصواب»() .
وقال العلامة الشاطبي -رحمه الله- : «من شروطهم في العالم بأي علم اتفق: أن يكون
عارفا بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا
بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه»() .
قلت : وهذا باب واسع ، فالموفَّق من عرف ذلك ،
وتفهَّمه ، وعمل به – في نفسه ، وفيمن حوله - ، فيوطن نفسه على استيفاء هذا
الشرط – إن أراد أن يكون عالما - ، ولا يعتبر بأحد من المتكلمين في الدين حوله إلا
باستيفائه – أيضا - .
واعلم أن أهم ما يحقق هذا الشرط : جرد المطولات
، فلا يجوز أن يكتفي الطالب بدراسة المختصرات ، أو الاطلاع العام ؛ بل يجب عليه أن
يَمخُر بسفينته عُباب المطولات ، ويصارع أمواجها ، ويصبر على المشقة في ذلك ؛ فإن
هذا هو الذي يصور عنده المسائل والمباحث – على التمام - ، ويوقفه على أسرارها وفوائدها ،
ويمكنه من تحريرها – على
الوجه المرضي - .
وهكذا كان علماؤنا الأعلام ، ومن اطلع على سيرهم وتراجمهم ؛ عرف اهتمامهم
بهذا الأمر العظيم ، وأنه كان سر نبوغهم وإمامتهم –
بتوفيق الله - .
وأما الذي يفرط في ذلك ؛ فإنه يصير مغبونا في علمه
، منقوصا في معرفته ، لا يحيط بالمباحث العلمية ، ولا يؤصلها حق التأصيل ، فيكون
تحريره لها ناقصا – على
الدوام - ، لا يشفي عليلا ، ولا يروي غليلا ، وتأتي – من بعد ذلك – ثالثة الأثافي ، عندما يشتهر الرجل ، ويُطلِع
قرنه للناس
– على
تقصيره هذا - ، فيظنونه علامة عصره ، ونابغة دهره ، وفقيه وقته ، فيأتون إليه
بالنوازل من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ولا تجد أكثرهم مميزين
!! فحدِّث – عندئذ – عن التخليط والفساد في الدين – ولا حرج - !!
فنصيحتي لنفسي
وإخواني: ضرورة الإقبال على جرد المطولات – بعد هضم المختصرات -، فمن أراد التخصص في فن معين
؛ فليسلك فيه هذه السبيل ، وليحرص – في خلالها – على تقييد الفوائد، وتمييز المباحث ، وتحرير المسائل ؛
فإن هذا هو قوام الرسوخ العلمي ، والسؤدد الشرعي ؛ وفَّق الله الجميع لما يحبه
ويرضاه .
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
|