الإمامة والرفق الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، هو الحق المبين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد ؛ فقد كنت أطلع على ترجمة الإمام أبي عمرو الأوزاعي -رحمه الله- من «التهذيب» ، فوقفت فيها على قول الإمام ابن المبارك -رحمه الله- : «لو قيل لي: اختر لهذه الأمة؛ لاخترت الثوري والأوزاعي، ثم لاخترت الأوزاعي؛ لأنه أرفق الرجلين» . فتأملت في هذه المقولة الطيبة ، وما وقع فيها من اختيار الأوزاعي -رحمه الله- ، وتقديمه على الثوري -رحمه الله- في الإمامة ؛ لأجل ما كان يتصف به من الرفق ، فلاح لي أن الرفق كان من أهم سمات الإمامة – عند السلف - ، فلا يكون – عندهم – إماما إلا من كان رفيقا . وهذا – لعمر الله – أمر صحيح سديد ؛ فإن الإمامة مشروطة بتحقيق الصبر واليقين ؛ كما هو معلوم من قول الله -عز وجل- : ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾() ، ولا شك أن الرفق من جملة الصبر ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف، وما لا يعطى على ما سواه»() ، ويقول : «من يحرم الرفق؛ يحرم الخير»() . والرفق هو الصفة التي يتمكن بها الرجل من استمالة الناس إليه ، بما يؤهله لإمامتهم ؛ كما قيل للإمام الدارمي صاحب السنن -رحمه الله- : «أحمد إمام ؟» - يعني : ابن حنبل - ، قال : «إي واللهِ إمام – كما يكون الإمام - ؛ أحمد أخذ بمجامع قلوب الناس ، أحمد صبر على الفقر عشرين سنة»() ؛ ولهذا قال الإمام أبو إسحق الفزاري -رحمه الله- في الأوزاعي – بناء على رفقه الذي استحق به الإمامة - : «أما الأوزاعي؛ فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة»() . ولم يزل علماؤنا – من السلف والخلف – يذكرون الرفق في صفات العالم ، وتتبع عباراتهم في ذلك يطول . والمقصود هنا : أن من أراد الإمامة والتقدمة بين الناس ؛ فلابد أن يكون رفيقا ، وإلا ؛ فلن يصل إلى هذه المنزلة – وإن حاز ما بين المشرقين من العلم - . وهذا يقودنا إلى معرفة الفرق بين مجرد العلم والإمامة – أو : بين العالم والإمام - ، فكل إمام عالم ، ولا عكس ، وكم من رجل حصَّل علوما ومعارف شتى ؛ ولكنه أفسد نفسه بطيشه وسوء خلقه ، فصد عنه الناس ، ونفَّرهم عما معه من الحق . ومن هنا كانت حاجة الدعاة وطلبة العلم إلى الرفق كحاجتهم إلى العلم – إن لم تكن أشد -؛ فإن الناس يحتاجون إلى الإمام ، الذي يقودهم ويهديهم ؛ يحتاجون إلى الإمام ، الذي تتعلق به قلوبهم ، وتثق بمنهجه ودعوته ؛ يحتاجون إلى الإمام ، الذي يؤثر فيهم وفي واقعه ، فتَشْرَئِبُّ الأعناق إلى فتواه ، وتتشوف القلوب إلى حكمه وفصله ؛ تماما كحال الأئمة الأوائل ، مما هو معلوم لا يُدفَع . فاللهَ اللهَ – يا طلبة العلم - ! نريد أئمة من الأبرار ، لا زوامل أسفار !! نريد قادة للأمة ، لا أسبابا للغمة !! فعليكم بالرفق ، وغيره من الأخلاق الفاضلات ، تمسكوا بها ، وعَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم وشأن يهود : من الفصل بين العلم والعمل ، واتخذوا نبراسا لكم من مثل : «الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع» ، و«اقتضاء العلم العمل» ، و«أخلاق العلماء» ، و«التبيان في آداب حملة القرآن» ، و«فضل علم السلف على علم الخلف» ؛ نسأل الله أن يستعملنا ، ولا يستبدلنا ؛ إنه ولينا ومولانا ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل . كتبه أبو حازم القاهري السلفي 16 / رجب / 1432
|