هل في فلسطين جهاد مشروع؟! - مقالات متنوعة ومرة أخرى! هل في فلسطين جهاد مشروع؟! - مقالات متنوعة من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم - خطب عامة جبر الخواطر وأثره في تقوية العلاقة بين المسلمين - خطب عامة حق الطفل في التربية والرعاية - خطب عامة كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل 1445 - خطب عامة استقبال رمضان بالعلم والقرآن والتكافل - خطب عامة الاستعداد لرمضان بالتوبة والإخلاص - خطب عامة أحكام الصيام والاعتكاف في سؤال وجواب - قسم الكتب والأبحاث العلمية رمضان شهر الانتصارات 1445 - رمضان عام 1445 هـ
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :539990
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

أَوَقَدْ جرؤتَ يا أبا الفتن؟!! (الحلقة الثانية)

المقال
أَوَقَدْ جرؤتَ يا أبا الفتن؟!! (الحلقة الثانية)
4865 زائر
09/05/2014
أبو حازم القاهري السلفي

أَوَقَدْ جَرُؤْتَ يا أبا الفتن؟!

(الرد على أبي الحسن المأربي في تسويغه اقترافَ الكفر للمصلحة)

(الحلقة الثانية)

أحمد الله حمدا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق كل شيء فقدَّره تقديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه للناس بشيرا ونذيرا؛ صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.

فقد ذكرنا -في الحلقة الماضية- مقالةَِ المأربي -أخزاه الله- في تسويغ اقتراف الكفر لغير الإكراه -من مصلحة عامة أو خاصة-، وبيَّنَّا مخالفةَ ذلك للنص والإجماع، وذكرنا أنه عَمَدَ إلى تقرير هذه المقالة الفاسدة ببعض الشبهات.

وهذا أوان ذكرها، وإِتْباعِها بالنقض -بحول الله وقوته-.

** قال المأربي:

«فمن الترخيص في الوقوع في الكفر لتحقيق المصلحة العامة: دعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام- لقومه، وكان في مقام المناظرة لا في مقام النظر -على الراجح-، وقد سلَّم لهم في الظاهر بأن الكوكب والشمس والقمر أرباب له، مع أن هذا القول لا يجوز من هو دون الخليل -عليه السلام- في حالة تجرده عن أي سبب ملجئ لذلك، أو يرجى منه مصلحة أكبر؛ فكيف بالخليل الذي وفَّى، والذي أُمرنا باتباع ملته، والذي آتاه الله رشده من قبل؟

فالخليل -عليه السلام- أظهر لهم الموافقة تأليفا لهم -مع علمه ببطلان ما هم عليه-، ثم بيَّن لهم عيوب آلهتهم، وأنها لا تستحق أن تُعبد من دون الله، فأين الإكراه والإلجاء والإلزام الذي تعرض له الخليل هنا؟ إنما روعي هنا تحقيق المصلحة العامة في الدعوة إلى الله، وذلك بالمزيد في التلطف بالمدعو، والتدرج معه، وإظهار بطلان ما هو عليه بما لا يجحده عاقل، ولو كان ذلك بالتنزل في القول والكلام بما لا يجوز من آحاد الناس فضلا عن الخليل -عليه السلام-، إذا تجرد المقام عن مثل هذا المقصد الشرعي، وكل هذا مع اطمئنان القلب بالإيمان» اهـ المراد من كلامه([1])، وتأتي مناقشته في سائره.

** قال أبو حازم -ألهمه الله رشده-:

لقد اختلفت عبارات العلماء -من المفسرين وغيرهم- في قول إبراهيم -عليه السلام-: «هذا ربي»، وقد لخَّصَ المشهورَ والمهمَّ منها: الإمامُ البغويُّ -رحمه الله- في «تفسيره».

قال: «واختلفوا في قوله ذلك:

فأجراه بعضهم على الظاهر، وقالوا: كان إبراهيم -عليه السلام- مسترشدا طالبا للتوحيد، حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده، فلم يضره ذلك في حال الاستدلال، وأيضا كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه، فلم يكن كفرا([2]).

وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء؛ وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله، وطهَّره، وآتاه رشده من قبل، وأخبر عنه فقال: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ([3])، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ([4])؛أفتراه أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن رأى كوكبا، قال: «هذا ربي» -معتقِدًا-؟! فهذا ما لا يكون أبدا.

ثم قالوا: فيه أربعة أوجه من التأويل:

أحدها: أن إبراهيم -عليه السلام- أراد أن يستدرج القوم بهذا القول، ويعرِّفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، ويرون أن الأمور كلها إليها، فأراهم أنه معظِّم ما عظَّموه، وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم؛ ليثبت خطأ ما يدعون؛ ومثل هذا مثل الحواريِّ الذي ورد على قوم يعبدون الصنم، فأظهر تعظيمه، فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه، إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره، فقال: «الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلَّنا»، فاجتمعوا حوله يتضرعون، فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله، فدَعَوْه، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون، فأسلموا.

والوجه الثاني من التأويل: أنه قاله على وجه الاستفهام، تقديره: «أهذا ربي؟»، كقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ([5])، أي: أفهم الخالدون؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم، يعني: ومثل هذا يكون ربا؟! أي: ليس هذا ربي.

والوجه الثالث: أنه على وجه الاحتجاج عليهم، يقول: هذا ربي -بزعمكم-، فلما غاب قال: لو كان إلها لما غاب، كما قال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ([6])، أي: عند نفسك وبزعمك، وكما أخبر عن موسى أنه قال: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ([7])، يريد: إلهك -بزعمك-.

والوجه الرابع: فيه إضمار، وتقديره: يقولون هذا ربي، كقوله ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا([8])، أي: يقولون ربنا تقبل منا» اهـ([9]).

قلت: فحاصل كلامه: أن للناس في قوله: «هذا ربي» طريقين:

أحدهما: إجراؤه على الظاهر، فيكون الخليل -عليه السلام- ناظرا ومستدلا على التوحيد.

والثاني: إجراؤه على غير الظاهر، فيكون فيه التأويلات المذكورة.

فأما الطريق الأول؛ فعامة القائلين به هم من أهل البدع([10])، يريدون تثبيت حجتهم في الاستدلال على التوحيد بالنظر في الأعراض والأجسام، وقد تقدم ردُّ ذلك فيما ذكره البغوي من حجة الفريق الثاني، وكذا قال غير واحد من العلماء([11]).

فبقي الطريق الثاني، وهو ما عليه عامة أهل العلم([12])، وقد جزم به المأربي ورفض الأول -كما رأيتَ في كلامه-.

فالسؤال الآن: ما هو التأويل المقبول لكلام الخليل -عليه السلام-؟

لقد جزم المأربي -كما رأيتَ- بأنه كان موافقةً للمشركين، فيكون الخليل -عليه السلام- قد تلفظ بالكفر موافقةً ظاهرةً لقومه؛ لمجرد مناظرتهم، من غير إكراه ولا إلجاء.

وهذا التأويل -وإن كان موافقا للتأويل الأول الذي ذكره البغوي-؛ إلا أنه بعيد كل البعد عن مقام الخليل -عليه السلام- ومكانه في التوحيد، واعتبر بالمثل الذي ذكره البغوي عن حجة القائلين بهذا التأويل: مثلِ الحواريِّ الذي أمر أصحابه بالشرك حتى يبين لهم زيفه!! أيليق هذا إلا بالطرق «الميكافيلِّية» الكافرة؟!! وإذا كان من ضروريات الشريعة: أن الغاية لا تبرر الوسيلة في الأحكام العملية؛ فكيف بالتوحيد -وهو أصل الأصول-؟!! وكيف يقول عاقل -فضلا عن عالم-: إنه يجوز للداعية أن يأمر قومه بالشرك، ويقرهم على ذلك -في الظاهر-؛ ما دام «قصده» (!) بيان زيفه وبطلانه؟!! وقد تقدم بيان النص والإجماع في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- على تحريم إتيان الكفر لغير الإكراه المُلْجِئ؛ أفيُعقَل أن يكون الأمر على غير هذا في شريعة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وهو إمام الموحِّدين الحنفاء، ودين الأنبياء جميعا -في التوحيد والأحكام العامة- واحد؟!! ولو كانت لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- رخصة في خلاف ذلك؛ أفلا كان مثلُها لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في أشد أوقات الاستضعاف؟!!

فبان بما ذكرنا أن التأويل الذي جزم به المأربي خطأ بحت، وباطل محض، لا يجوز القول به، ولا نسبته إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وهو من هو؛ والله إنما تعبَّدنا بالحجة والدليل، لا بالآراء والأقاويل، وقد أَشَرْنا آنفا إلى أن الإمام الطبري -وهو شيخ المفسرين وإمامهم- اختار أن إبراهيم كان ناظرا مستدلا -وسيأتي نقل كلامه-، واختياره هذا باطل، رفضه كافة العلماء والمفسرين، ورفضه المأربي نفسه.

وأما سائر التأويلات التي ذكرها البغوي؛ فهي مقبولة جدا([13])، وأقربها: التأويل الثالث: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد حكاية مذهبهم، مُنكِرًا عليهم، ومُوَبِّخًا لهم؛ لا موافقا أو مُقِرًّا لهم -ولو في الظاهر-.

وقد جزم بهذا التأويل غير واحد من أهل العلم؛ بل هو -بعينه- ما عزاه القاضي عياض والحافظ ابن حجر -رحمهما الله- إلى الأكثرين.

قال القاضي: «وذهب معظم الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مُبَكِّتًا لقومه، ومستدلا عليهم» اهـ([14]).

وقال الحافظ -معلِّقًا على إحدى روايات مسلم، التي جاء فيها عَدُّ هذا القول من إبراهيم -عليه السلام- ضمن الكَذَبات-: «الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة؛ فإنه ذكر قوله في الكوكب بدل قوله في سارة، والذي اتفقت عليه الطرق: ذِكْرُ سارة دون الكوكب، وكأنه لم يُعَدَّ -مع أنه أَدْخَلُ من ذكر سارة- لِمَا نُقل أنه قاله في حال الطفولية، فلم يعدَّها لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف؛ وهذه طريقة ابن إسحاق.

وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ؛ لكنه قاله على طريق الاستفهام الذي يُقصد به التوبيخ. وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه؛ تنبيها على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية؛ وهذا قول الأكثر: إنه قال توبيخا لقومه، أو تهكُّمًا بهم؛ وهو المعتمد؛ ولهذا لم يُعَدَّ ذلك في الكذبات» اهـ([15]).

وقد تقدم كلام العلامة الشنقيطي -رحمه الله- في أن القرآن إنما يدل على صحة هذا التأويل بعينه.

فهذا هو الذي يجب القطع به؛ وهو الذي يُظَنُّ بعامة الحنفاء -فضلا عن إمامهم-، وهو الموافق لأصول الشرائع وإجماع العلماء في منع اقتراف الكفر لغير إكراه ملجئ.

فما الذي صرف المأربيَّ عن الأخذ بهذا التأويل؟! وما الذي دفعه إلى الأخذ بما وصفنا قُبْحَه وشناعتَه؟!

لقد حاول أن يخترع لنفسه داعيا شرعيا، فادعى أن سياق الآيات يمنع من التأويل المختار، ويوجب الأخذ بالظاهر، وتعلق بكلام الطبري -رحمه الله-، الذي قال فيه:

«وفي خبر الله تعالى عن قِيلِ إبراهيم حين أفل القمر: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾: الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك: الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه» اهـ([16]).

فأقول: الجواب من وجهين:

* أحدهما: أن الأمر ليس كما قال الطبري -رحمه الله-، وقد رده غير واحد.

فقال البغوي -رحمه الله-: «لئن لم يثبتني على الهدى، ليس أنه لم يكن مهتديا، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان، وكان إبراهيم يقول:«واجنبني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام» اهـ([17]).

وزاد عليه ابن الجوزي -رحمه الله-: «ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون موقنا؛ فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟!» اهـ([18]).

وما تقدم من كلام العلماء في إبطال كون إبراهيم -عليه السلام- ناظرا: يصلح في الرد على كلام الطبري، وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين هذه الآية، وبين ما اخترناه من التأويل.

* والوجه الثاني: أن تأويل الطبري المذكور للآية هو الذي دفعه إلى اختيار كون الخليل -عليه السلام- ناظرا([19])، وهو مقتضى الأخذ بالظاهر -كما تقدم من عبارات العلماء-؛ فيلزم المأربيَّ -إذ تعلق بتأويله- أن يوافقه في اختياره، فيجعل إبراهيم -عليه السلام- ناظرا؛ وقد رأيتَ أن المأربي قد صرح بخلاف هذا، فلزمه التناقض والاضطراب!!

وبأسلوب آخر؛ نقول للمأربي:

قد اخترتَ الظاهر من قول إبراهيم -عليه السلام-: «هذا ربي»، ومنعتَ تأويله؛ فلماذا لا تأخذ بالظاهر في كونه كان ناظرا؟

فسيقول: لأن الدليل قد دل على خلافه.

فنقول: وقد دل أيضا على خلافه في قول: «هذا ربي»؛ فإما أن توافقنا، وإما أن تتناقض.

فحاصل الأمر: أن الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يوافق قومه -ولو ظاهرا- على كفرهم، وحاشاه من ذلك؛ بل كان حاكيا لقولهم -في سياق الإنكار-، وشتان ما بين الأمرين.

ولا بأس ببعض تنزُّلٍ مع المأربي؛ فنقول له:

هَبْ أن إبراهيم -عليه السلام- وافق قومه في الظاهر؛ فإلى أي مدى كان ذلك؟!

لم يلبث -عليه السلام- إلا يسيرا، حتى صدع بمباينة قومه، وتسفيههم، والبراءة منهم؛ بل حطَّم أصنامهم، وتعرض بذلك لأشد ألوان النكال.

فهل أنتم فاعلون ذلك -يا أبا الفتن-؟!! ومتى «تَنْوُونه» ؟!! أم هي حبال التسويف والأمانيِّ ممدودة على غاربها -وواقعكم شاهد-؟!!

ألا خِبْتُم، وخاب مسعاكم، وتبوَّأْتُم من الذل والصغار منزلا، وجزاكم الله شرا بما كذبتم على أنبيائه وصفوة خلقه.

هذا آخر الرد على أول ما حاول به المأربي تبرير شبهته الخبيثة، وما بعده أهون منه -إن شاء الله-، وبيان ذلك في الحلقات القادمة.

كتبه

أبو حازم القاهري السلفي

الخميس 9/رجب/1435



([1]) «المختصر» (111-112).

([2]) وهذا مأثور عن ابن عباس: أنه عبد الكوكب حتى غاب، والقمر حتى غاب، والشمس حتى غابت؛ رواه الطبري وابن أبي حاتم -بإسناد ضعيف-.

([3]) الصافات: 84.

([4]) الأنعام: 75.

([5]) الأنبياء: 34.

([6]) الدخان: 49.

([7]) طه: 97.

([8]) البقرة: 127.

([9]) «معالم التنزيل» (3/161-162).

([10]) وإن اختاره الإمام الطبري -رحمه الله- في «تفسيره»، وسبقه إليه ابن إسحق -صاحب «المغازي»-؛ لكن مأخذه مختلف عن مأخذ المبتدعة المذكور، وسيأتي ذكر كلام الطبري -مع الرد على مأخذه-.

([11]) قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في «تفسيره» (5/444) بعدما ذكر الأدلة على أن الإنسان يولَد على فطرة التوحيد: «فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة؛ فكيف يكون إبراهيم الخليل -الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين- ناظرا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة -بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا شك ولا ريب-؛ ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا: قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾» اهـ.

وقال العلامة الشنقيطي -رحمه الله- في «أضواء البيان» (1/485-486): «قوله: «هذا ربي» في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك -كما روي عن ابن عباس وغيره-، ومحتمل لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله، ومراده: هذا ربي -في زعمكم الباطل-، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار؛ والقرآن يبين بطلان الأول، وصحة الثاني.

أما بطلان الأول؛ فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ في عدة آيات، ونفيُ الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما.

وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله؛ فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ إلى آخره، «بالفاء» على قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾، وقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾» اهـ.

وأما استدلال المبتدعة المذكور بهذه القصة على صحة النظر في الأعراض والأجسام؛ فقد اعتنى الإمام ابن تيمية -رحمه الله- بإبطاله، وكلامه في ذلك كثير معروف.

([12]) عزاه القاضي عياض -رحمه الله- في «الشفا» إلى «معظم الحُذَّاق من العلماء والمفسرين»، وعزاه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في «الفتح» إلى «الأكثر»، قال: «وهو المعتمد»؛ وسيأتي نقل كلامهما.

([13]) وإن استضعف بعض العلماء التأويل الثاني المتعلق بالاستفهام.

([14]) «الشفا» (2/260).

([15]) «فتح الباري» (6/391)، وممن جزم بأن القول المذكور معدود في الكذبات: ابن العربي في «أحكام القرآن» (3/268)، وأبو حيان في «البحر المحيط» (4/565).

واعلم أن الكذبات المومَى إليها إنما هي تعريض، وسُمِّيَتْ كذبا بحسب ما يفهمه السامع، وبيان ذلك أجنبي عن مقامنا هنا.

([16]) «جامع البيان» (11/485)، وهذا الذي ذكرته من صنيع المأربي: هو تتمة تقريره لشبهته هذه -كما في «مختصره» (113-114)-.

([17]) «معالم التنزيل» (3/162-163).

([18]) «زاد المسير» (2/48).

([19]) وقد قال بعد ذلك (11/487) على قول إبراهيم -عليه السلام-: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: «وهذا خبر من الله -تعالى ذكره- عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه، شهد شهادةَ الحقّ، وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه، مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه» اهـ.

لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي إف اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت