أخي! جاوز الحداديون المدى!!
(الخطوط العريضة لانحرافات الحدادية الجديدة)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين -كالمبتدعين الضالين-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، وخيرةُ ولد آدم أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، ومن تبعهم -بإحسان- إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فقد قضى ربنا -جل شأنه- بإيجاد الشر والفتن؛ لحكم عظيمة بالغة، يعرف الناس بعضها، ويَعْزُبُ عنهم أضعافها؛ تحقيقًا لربوبية الله -جَلَّ وعَزَّ-، وإظهارًا لمقتضيات أسمائه الحسنى وصفاته العُلَى.
وإن من الشر والفتن: البدعَ والضلالاتِ، التي تتسلط على الأعمال والمناهج والمعتقدات، فتغيِّرها وتفسدها، وتَلْبِسُ الحق فيها بالباطل، وتَزِيغُ بالعبد عن أمر ربه وصراطه المستقيم.
ولم تزل هذه البدع والضلالات تحدث في الأمة، ويَنْشَعِبُ بعضها من بعض، فيخرج صغيرها من كبيرها، ويتولد كبيرها من عظيم صغيرها، ولم يزل أهلها قائمين بها، داعين إليها، يخرجون في الأمة قرنا بعد قرن، كلما هلك قرن خَلَفَهُ مثلُه؛ فنعوذ بالله من فتن المُضِلِّين، ومصايد الشياطين.
وكما قرَّر أهل العلم -من السلف والخلف-؛ فإن للغُلُوِّ دورا كبيرا في ظهور البدع، وهو سِمَةٌ ظاهرةٌ لأهل البدع؛ بل به وقعت أول بدعة من البدع الكبرى، وهي: بدعة الخروج والتكفير؛ فقد وقف أصل الخوارج بين يدي الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم-، ينكر عليه كِفَاحًا، ويَرُدُّ عليه صُراحًا، فيقول -وبئس القِيلُ-: «اعدل يا محمد»!! هكذا: تَنَطُّعًا وغُلُوًّا، وظلمًا وعُلُوًّا.
ثم خرج من ضِئْضِئِهِ وخَلَفَ مِن بعده مَن ورثوا عنه الغلو فكان لهم دينا، فأَكْفروا المسلمين، وخرجوا على الأمة، يضربون بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشَوْن من مؤمنها، ولا يَفُون لذي عهدٍ عهدَه؛ قتلوا خليفتَيْن من الخلفاء الراشدين، وسَعَّروا نيران الفتنة بين الصحابة الطيبين، وفَتَقُوا في الإسلام فَتْقًا لم يستطعْه عُلُوجُ الكافرين والمشركين.
وكما أَسْلَفْنَا في وصف أهل البدع؛ فقد تواصلت أرحام الخوارج الخبيثة، وانتقلت دماء الغلو من أولهم إلى آخرهم، وتولَّدت قرونهم على هذه الوراثة الرذيلة، حتى تخَلَّفَ منهم خُلُوفٌ حملوا لواء الغلو في باب مغاير لباب أسلافهم؛ فقد كان غلوُّ أسلافهم في باب التكفير، وأما هؤلاء الخُلُوف؛ فغلوُّهم في باب التبديع.
إنهم الحدادية الرَّدِيَّة، الذين حملوا سيف التبديع والتشنيع صَلْتًا على أهل السنة وأئمتهم، فبدَّعوا من لا يستحق التبديع، وأسقطوا من لا يستأهل الإسقاط، وشنَّعوا في مواطن الخلاف السائغ، وشدَّدوا في مواطن الاجتهاد المعتبر؛ فكانوا -بذلك- مخانيثَ الخوارج، وورثتَهم في الغلو والتنطُّع.
ولم يزل هذا دَأْبهم مُذْ ظهروا على يد من يُنسَبون إليه: محمود الحداد المصري، حتى نَزَعَ عِرْقُهم -بأَخَرَةٍ- إلى أجدادهم الخوارج؛ فإن عِرْقَ الوَلَدِ ربما نَزَعَ إلى أجداده!! فانتقل الحدادية بغلوِّهم إلى باب التكفير، حتى شاركوا أجدادهم الخوارج في بعض أقوالهم ومسالكهم؛ وليس ذا بِعَجَبٍ -مع قانون الوراثة والنَّسَب-!!
وذلك أنني تابعتُ طَرَفًا من مقالات بعض الناس -بأَخَرَةٍ-، مِن «حازميٍّ» «أحمدَ» ليس من «الحزم» ولا «الحمد» بسبيل!! و«جُهَنِيٍّ» ليس عنده «الخبر اليقين»!! و«غامديٍّ» مُشَغِّبٍ مُعَسِّرٍ مسكينٍ!! ومن أشياعهم وأذنابهم -كُسَيْر، وعُوَيْر، وثالث ما فيه خير-!!
فرأيت القوم قد انْتَهَجُوا نَهْجَ الحدادية -الذي وَصَفْنَا- في بعض مسائل الإيمان والكفر، وهي: حكم تارك الصلاة -تهاوُنًا-، والعذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك، والحكم بغير ما أنزل الله؛ وإليك البيان([1]):
* أولا: حكم تارك الصلاة -تهاوُنًا-:
لقد ذهب القوم في هذه المسألة إلى أن الحكم بإكفار تارك الصلاة هو الذي يجب القطع به، ولا يحل الالتفات لسواه، وأن إجماع الصحابة المنقول في ذلك حجة قاطعة، يجب الإلزام والالتزام بها، والخلاف في هذه المسألة خلاف حادث، غير محتمل ولا سائغ، فلا يجوز لأحد ألا يكفر تارك الصلاة -أصلا-، ولا يجوز له أن يأخذ بقول من لم يكفره من أهل السنة؛ لأنهم مخالفون لإجماع الصحابة، والذين أذاعوا الخلافَ وأشهروه إنما هم المرجئة -في الأصل-، فتأثَّر بهم من تأثَّر من فقهاء المذاهب، حتى صيَّروه خلافا معتبرا!!
وهذا الذي وَصَفْنَا من قولهم جهلٌ مبين، وإحداثٌ في الدين، ومخالفةٌ لسبيل المؤمنين، لا يستريب في ذلك أصاغر السلفيين.
وذلك أنه من المعلوم بالضرورة -لدى أهل العلم ومُتَفَقِّرِيهِ- أن تارك الصلاة مختَلَفٌ في حكمه بين أهل السنة -من لَدُنِ السلف الصالح إلى يوم الناس هذا-، وأن هذا الاختلاف من النوع السائغ المحتمل، الذي لا تشنيع فيه ولا تبديع، ولم يزل أئمة السنة والإسلام يَحْكُونَهُ ويقررونه، لا غضاضة في ذلك -عندهم- ولا نكير، ولا يذكرون فيه تبديعا ولا تشنيعا، فليس الذي يكفر تارك الصلاة -عندهم- بخارجيٍّ حروريٍّ، ولا الذي لا يكفره بمرجئٍ غَوِيٍّ.
ونصوصهم -في ذلك- معلومة مشهورة، لا تخفى على من له أدنى ملابسة لعلم الشريعة المطهرة؛ بل لم يزل صغار الطلاب يتعلمون في دراسة المتون: أن تارك الصلاة مختَلَفٌ في حكمه، وأن هذا الاختلاف في دائرة أهل السنة، لا يُثَرَّبُ فيه على من أخذ بالتكفير أو عدمه.
هذا هو المعلوم لدى الأئمة، والمقرر في دواوين الإسلام، لا يُحفَظ خلافه عن عالم -قَطُّ-.
وإنما أُتي القوم -في جهالتهم الكبرى هذه- من النظر فيما نُقل من إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على إكفار تارك الصلاة، فقالوا: هذا إجماع الصَّحْب الكرام، والإجماع حجة مُلزمة، فأي إلزام أقوى من الإلزام بإجماع الصَّحْب؟! وكل من خالفهم فهو مَخْصُومٌ بإجماعهم، فلا يحل تركه لخلافه.
فنقول([2]): أرأيتم من نقل الإجماعَ المذكورَ من العلماء؛ ماذا كان موقفهم منه؟!
هل عدُّوه من الإجماعات القاطعة، التي يكفر أو يفسق مخالفها؟!!
هل بدَّعوا من خالفه؟!! هل نَبَزُوه بالإرجاء؟!!
هل قالوا ما قلتم -رَجْمًا بالغيب، وطعنًا في الدين- من أن أصل النزاع في هذه المسألة إنما أتى من قِبَل المرجئة، ثم تأثَّر بهم من تأثَّر من فقهاء السنة؟!!
من سبقكم إلى هذا «التحليل»؟!! ومن سلفُكم في هذه الدعوى؟!!
أهذه سلفيتكم التي تدَّعون؟!!
ولا عجب! فهذا «حازميُّكم» (!) يدعو إلى «التحرر» (!) من أقوال العلماء، والنظر -مباشرة- في دلالة النصوص والآثار!!!
ويقول -من بعد ذلك-: هو سلفي!!!
وأصل الإشكال في هذه المسألة -وهو أصل شبهة القوم-: كيف يُجمِع الصحابة على شيء، ويُعَدُّ النزاع فيه معتبرا؟!
والجواب: أن الإجماع على قسمين: إجماع ضروري، وإجماع نظري.
فالإجماع الضروري هو الذي يكون في أصول الدين العظيمة، وقواعده الكبرى، ويُعرَف بألا يُنقَل فيه عن أهل السنة سوى قول واحد، يُطبق عليه أهل العلم، وينُصُّون على أنه السنة، وأن خلافه خلافٌ للسنة.
وهذا هو الذي وصفه الإمام الشافعي -رحمه الله- بقوله: «في جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، وذلك الإجماع هو الذي لو قلتَ: «أجمع الناس»؛ لم تجد حولك أحدا يعرف شيئا يقول لك ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يُصدَّق بها من ادعى الإجماع فيها» اهـ([3]).
وأما إجماع يحكيه بعض أهل العلم، ثم يوجد من ينازع فيه، وتستمر حكاية هذا النزاع -بلا تشنيع ولا تبديع-؛ فكيف يكون الإجماع -حينئذ- ضروريا؟!! وهل يُعقَل إجماع ضروري ينازع فيه كثير من أهل العلم، ولا يُعقد عليه ولاء وبراء، ولا يُنسَب مخالفه إلى الكفر أو البدعة؟!!
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الفرق بين الإجماعَيْن في مواضع من كتبه، ومن كلامه في ذلك: «والإجماع نوعان: قطعي؛ فهذا لا سبيل إلى أن يُعلم إجماع قطعي على خلاف النص. وأما الظني؛ فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي: بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره؛ فهذا الإجماع -وإن جاز الاحتجاج به- فلا يجوز أن تُدفع النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها؛ فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي، وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به؛ فهو حجة ظنية، والظني لا يُدفع به النص المعلوم؛ لكن يُحتج به ويُقدم على ما هو دونه بالظن، ويُقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع؛ قدَّم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى؛ قدَّم هذا، والمصيب -في نفس الأمر- واحد» اهـ([4]).
وإذا نظرنا إلى المنقول من إجماع الصحابة على إكفار تارك الصلاة؛ فإننا لا نجده على سَمْتِ الإجماعات القطعية.
وذلك أن أقوى ما نُقل به هذا الإجماع: قول عبد الله بن شقيق المشهور: «كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئا من الأعمال تركُه كفرٌ إلا الصلاة».
فهذا اللفظ -على التسليم بصلاحيته للحجة- لا يفيد إجماعا قطعيا؛ فإن ابن شقيق لم يلحق من الصحابة إلا نفرا يسيرا، وكلهم ممن تأخرت وفاتهم -كأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر([5])-؛ فلعله استقرأ أقوال من أدركهم من هؤلاء، ولم يعلم مخالفا لهم، فحكاه إجماعا للصحابة، ولعله أطلق الكُلَّ وأراد البعض -وهذا شائع في النصوص الشرعية ولسان العرب-، ولعله أخذه عن تابعي أو صحابي يتطرق إليه من الاحتمال مثلُ ما ذكرنا؛ وهَلُمَّ جَرًّا.
فبهذه التوجيهات -ونحوها- ساغ أن يكون في المسألة خلافٌ معتبرٌ، وساغ أن يقول كثير من أهل السنة بعدم كفر تارك الصلاة، وساغ ألا يُعَدُّوا بذلك من أهل البدع أو المتأثِّرين بهم.
وكم من مسألة نُقِل فيها إجماع الصحابة -على الشاكلة التي شَرَحْنَا-، وكان النزاع فيها مشهورا معتبرا، لا تبديع فيه ولا تشنيع؛ وهذا معروف لدى أهل العلم وطلابه([6]).
وأما أن يُقال: إن إجماعَ الصحابة على كفر تارك الصلاة إجماعٌ ضروريٌّ قطعيٌّ -بمنزلة الإجماع على إثبات الصفات والقدر ونحو ذلك-؛ فهذا قولُ مَن تَخَبَّطَهُ شيطانُ الجهل والضلال مِن المَسِّ!! وهذا اتهامٌ لقرون مضت من الأئمة: إما بالبدعة، وإما بالغفلة!! فيا لله! أَيَغِيبُ الحقُّ عن مثل هؤلاء، ويَظْفَرُ به «جُهَنِيٌّ» (!) و«غامِدِيٌّ» (!) وأشكالهما في خُلُوف الزمان؟!!
فها أنت ترى ما صنع القوم -هداهم الله-، وما أَتَوْا به من المسلك الحداديِّ البيِّن؛ إذ جعلوا النزاع المعتبر غيرَ معتبر، وشنَّعوا وبدَّعوا في مواطن الاجتهاد، مخالفين -في ذلك- ما عليه أهل العلم، ومُنْسَلِخِين من طريقتهم.
* ثانيا: العذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك:
ومذهب القوم في هذه المسألة: انتفاء العذر المذكور في المسائل المذكورة -قولا واحدا-، فمن وقع في الشرك الأكبر -عندهم-؛ فهو مشرك كافر، يُسمَّى كذلك في الدنيا، ويُعامَل بأحكام الكفار والمشركين -وإن كان مسلما جاهلا، لم تبلغه الحجة-؛ وهذا -أيضا- مُجمَعٌ عليه -عندهم-، ومن خالفه كان مرجئا، أو متأثِّرا بالإرجاء، أو مجادلا عن المشركين؛ إلى غير ذلك من التُّهَم والفواقر!!
وكان العبد الفقير إلى ربه الكبير قد عقد محاضرة بعنوان: «مُهِمَّات في مسألة العذر بالجهل»([7])، بَيَّنَ فيها ما تَلْخِيصُهُ([8]):
أن هناك مقدِّمات لهذه المسألة الجليلة، لا بد من الاتفاق عليها -أولا-:
- الأولى: أن مذهب أهل السنة في قضية التحسين والتقبيح العقليَّيْن: أن العقل يمكنه إدراك ما في الأشياء من حُسْن أو قُبْح، أو نفع أو ضرر؛ ولكن الثواب والعقاب لا يَتَرَتَّبَان على ذلك إلا بالشرع، فلا يعذب الله أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه.
- الثانية: أن عارض الجهل -عموما- قد ثبت اعتباره بالكتاب والسنة والإجماع.
- الثالثة: أن المراد بالجهل المعتبر، الذي يثبت به العذر: عدم بلوغ الحجة الرسالية في المسألة المعيَّنة إلى الشخص المعيَّن؛ وأما الجهل الناشئ عن التفريط في طلب الحق -بعد بلوغه-، والجهل بما يترتب على الشيء -بعد معرفة حكمه-؛ فليس بمعتبر، والمؤاخذة معه متحققة، والعذر مُنْتَفٍ.
- الرابعة: أنه يدخل في عموم ما قررناه: العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد، وقد ثبت فيه -بخصوصه- أدلة متظاهرة بيِّنة، وأهل السنة متفقون على ذلك.
- الخامسة: أنه ينبني على ما قررناه: التفريق بين النوع والعين في مسائل الأسماء والأحكام، وبالنسبة للكفر؛ فليس كل من وقع في الكفر صار كافرا، حتى تُسْتَوْفَى في حقه الشروط وتنتفي الموانع، ومنها: الجهل -على ما أوضحنا-.
- السادسة: أن العذر بالجهل -على ما أوضحنا- إنما يكون في المسائل الخفية، التي يُتصور فيها عدم بلوغ الحجة، وأما المسائل الظاهرة، التي ينتشر بها العلم لدى الكافة؛ فلا يُتصور فيها عذر بالجهل.
- السابعة: أن الظهور والخفاء أمر نسبي، يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، فقد تكون المسألة ظاهرةً في زمان أو مكان أو حال، خفيةً في غيرهم، والعكس كذلك.
هذه مقدمات مقرَّرة مستفيضة -لدى أهل العلم-، وإنما اختلف العلماء في تنزيلها على مسائل التوحيد والشرك، لاسيما المقدمة المتعلقة بالظهور والخفاء:
فذهب فريق من العلماء إلى أن مسائل التوحيد والشرك لا يُعذَر فيها بالجهل -على ما سبق إيضاحه في صدر المسألة-؛ لأنهم لم يتصوروا فيها الخفاء.
وذهب فريق آخر إلى ثبوت العذر في هذه المسائل؛ لأنهم تصوروا فيها الخفاء.
هذا هو سبب الخلاف، فالجميع متفقون على المقدمات السلفية المذكورة آنفا، ومتفقون على أن المسائل الظاهرة لا عذر فيها، وأن مسائل التوحيد والشرك من أظهر المسائل؛ ولكن هل يمكن أن يلحقها الخفاء في زمن ما، أو مكان ما، أو حال ما؟ هذا سر المسألة.
فمن نفى العذر؛ لم يتصور الخفاء في هذه المسائل، ومن أثبته؛ تصوَّرَه، وهذا هو الواقع -جزما- في كثير من بلاد الإسلام، لا ينكره إلا مكابر عنيد، أو مُغَيَّب بليد!!
فمن أدرك هذا وفَهِمَه؛ انْحَلَّت عنه جميع الإشكالات، وأنزل المسألةَ منزلتَها، وأيقن أن الخلاف فيها معتبر محتمل؛ بل لو تصوَّر الفريقان مَحَلًّا معينا للنزاع، وتصوَّرا فيه الظهور أو الخفاء؛ فإنهما لا يختلفان في الحكم عليه؛ ولهذا وُجِد في فتاوى بعض العلماء نفاة العذر: أنهم يثبتونه أحيانا.
ومن أمثلة ذلك: العلامة ابن باز -رحمه الله- أقواله في نفي العذر مشهورة، ومع ذلك فقد سئل([9]): «إن رأيتُ أحدا يدعو صاحب القبر ويستغيث به, فهو مصاب بالشرك؛ فهل أدعوه على أنه مسلم, أم أدعوه على أنه مشرك, إذا أردتُ أن أدعوه إلى الله -عز وجل-, وأن أبين له؟».
فأجاب: «ادعه بعبارة أخرى, لا هذه ولا هذه, قل له: يا فلان، يا عبد الله، عملك هذا الذي فعلته شرك, وليس عبادة، هو عمل المشركين الجاهلين, عمل قريش وأشباه قريش؛ لأن هنا مانعًا من تكفيره؛ ولأن فيه تنفيره -أول ما تدعوه-؛ ولأن تكفير المعين غير العمل الذي هو شرك, فالعمل شرك, ولا يكون العامل مشركا، فقد يكون المانع من تكفيره جهله، أو عدم بصيرته -على حد قول العلماء-، وأيضاً في دعوته بالشرك تنفير, فتدعوه باسمه, ثم تبين له أن هذا العمل شرك».
فسئل: «ما الراجح في تكفير المعين؟».
فأجاب: «إذا قامت عليه الأدلة، والحجة الدالة على كفره, ووضح له السبيل، ثم أصر؛ فهو كافر؛ لكن بعض العلماء يرى أن من وقعت عنده بعض الأشياء الشركية، وقد يكون ملبسا عليه، وقد يكون جاهلا, ولا يعرف الحقيقة؛ فلا يكفره حتى يبين له ويرشده إلى أن هذا كفر وضلال, وأن هذا عمل المشركين الأولين, وإذا أصر بعد البيان يحكم عليه بكفر معين » اهـ([10]).
هذا تلخيص المحاضرة المحال عليها، فأين منه صنيع القوم الذي وَصَفْنا؟!
وكلُّ من تأمل الأدلة الشرعية، وأقوال وتصرفات العلماء -من السلف والخلف-؛ لم يجد إلا التفصيل في هذه المسألة: فَحِينًا يثبت العذر بالجهل، وَحِينًا ينتفي.
وأخشى أن تكون حقيقة مذهب القوم -أو بعضهم-: نفي العذر بالجهل في مسائل العقيدة -جملة-، وأن من وقع في كفر -أَيًّا كانت صورته- صار كافرا، من غير نظر في استيفاء شروط ولا انتفاء موانع -أصلا-!!
وهذا -لَعَمْرِي- مذهب أهل البدع -صِرفًا-، الذين يكفرون كل جاهل ومخطئ في أصول الدين، وهذا من أَوْجُهِ تقسيمهم مسائلَ الدين إلى أصول وفروع -كما هو مقرَّر في موضعه-.
فأقل أحوال القوم -وهو الظاهر منهم حتى الآن-: انْتِهَاجُ نَهْج الحدادية في هذه المسألة، بالتشنيع والتبديع في موطن الاجتهاد السائغ.
وأما الإيغال في الضلال والخبال، بتكفير من يعذر بالجهل؛ فهذا أمر نعود إليه بعد حين -إن شاء الله-.
* ثالثا: الحكم بغير ما أنزل الله:
ومقالة القوم في هذه المسألة: أن الحكم بغير ما أنزل الله كدعاء غير الله: كفر أكبر -في ذاته-، ولاسيما في التشريع العام، وخلافُ ذلك -عندهم- إرجاء -أيضا-([11])!!
والحق أن الخوض في هذه المسألة حماقة وسماجة؛ فقد فرغ منها السلفيون -حقا- منذ سنين عددا، وصار من المعلوم لدى صغارهم: أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس كفرا أكبر -في ذاته-، وإنما هو كفر دون كفر، بمنزلة قتل المسلم ونحوه، ولا يصير كفرا أكبر إلا بالاستحلال أو نحوه.
هكذا يعرف صغار أهل السنة، وهكذا يرُدُّ كبارهم على الخوارج المُرَّاق، ويبيِّنون أنه مذهب السلف وإجماعهم، وينسبون خلافه إلى الخوارج، وينقلون في ذلك ما كاد طلبة العلم أن يستظهروه حِفْظًا -من كلام ابن عباس، ومن تبعه من السلف والخلف-.
وكذلك الأمر في التشريع العام -كما استقرت عليه فتوى أئمة العصر-.
فما وجه الخوض في هذه المسألة -بعد هذا كله-؟!! وما وجه إنعاش المذهب الخارجي الرَّدِيِّ، ومخالفة إجماع السلف في الحكم بغير ما أنزل الله؟!!
فنحن -إذن- قد تجاوزنا حَدَّ الحدادية -الغلو في التشنيع والتبديع-، وانتقلنا إلى حَدِّ الخوارج -الغلو في التكفير-؛ نَزْعَةَ العِرْق، وقانونَ الوراثة!!
ولم يقف الأمر عند موافقة الخوارج في مسألة الحكم؛ بل وصل إلى حَدِّ تكفير الأعيان من المسلمين؛ بل من علمائهم!!!
فهذا «الحازميُّ» المجرم الأثيم يقول فيمن يعذر بالجهل من العلماء: «من وقف منهم على كلام العلماء، ثم أصرَّ على الإعذار؛ فهو كافر مرتد»!!!
ويقول: «الذين يدَّعون السلفية -اليوم- أكثرهم زنادقة!!! والجهم بن صفوان أحسن حالا منهم»!!!
ويقول: «الذي يحكم بالقوانين الوضعية كُفْرُه عَيْنًا»!!!
وصرَّح بعض أراذل القوم بتكفير الشيخ العلامة المجاهد ربيع بن هادي -حفظه الله-!!!
فأي شيء هذا؟!!
لقد قَفَّ شعري حين وقفتُ على هذا الرَّجِيع، ولستُ أدري -حقا-: أَأُجَاوِبُهُ، أم أُهْمِلُهُ!!!
لقد تجاوز الأمر -بذلك- كلَّ حَدٍّ معقول، وانسلخ من السنة والعلم كما تنسلخ الحَيَّة من جلدها.
إننا أمام ظاهرة خطيرة، وطائفة مُبِيرَة، بَلَغَتْ من الغُلُوِّ مَبْلَغًا، سَفَّهَتْ وضَلَّلَتْ فيه العلماء وطلبة العلم -من السلف والخلف-؛ بل أَخْرَجَتْهم من دينهم؛ في جهل غريب، وتنطُّع عجيب، ومخالفة لسبيل المؤمنين، وإحياء لسَنَن المبتدعين.
أَلَا فاحذروا هذه الطائفة المَقِيتَة على دينكم، ولا تأمنوهم على اعتقادكم؛ أن يفتنوكم ويضلُّوكم -وأنتم لا تشعرون-.
ولقد قام مشايخنا وإخواننا بجهود مشكورة في إزهاق أباطيل القوم، ولدى أهل السنة مزيدٌ -بحول الله-، حتى يتكامل «اجتماع الجيوش السلفية لغزو الطائفة الحدادية»، فتُصَبِّحَها -وَسَاءَ صباحُ المجرمين-.
فأبشروا أيها -الحداديون- بما يسوءكم، من لَدُن أبيكم «الحَدَّاد»، إلى من لحق منكم بالخوارج الحِدَاد؛ والله المستعان على ما تصفون.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه -كافة-.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 19/شوال/1435
([1]) وجميع ما سأنقله عن القوم معروف ذائع عنهم، ولو تحرَّيْتُ نقل نصوصهم في ذلك؛ لطال المقام، ومقالي هذا إنما هو عرض للخطوط العريضة لانحرافهم، مع رَدٍّ مختصر عليها، فما أنقله عنهم هو خلاصة كلامهم، من غير تحريف ولا إخلال -إن شاء الله-.
([2]) وتذكَّر ما بيَّنتُه لك من شأن مقالي هذا، فليس المقصود تفصيل الرد عليهم.
([4]) «مجموع الفتاوى» (19/267-268).
([5]) يُراجَع ما سطره العلامة ربيع بن هادي -حفظه الله- بهذا الشأن، وهو موجود على موقعه، وعلى «شبكة سحاب».
([6]) وإِذْ نحن نتكلم في الصلاة؛ فلْنمثِّلْ بمسألة قضاء الصلوات المتروكة عمدا، فقد ذكر ابن حزم في «المحلَّى» (2/13) نفرا من الصحابة القائلين بعدم القضاء، ثم قال (2/15): «ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة -رضي الله عنهم- مخالفا منهم»، وحول هذا دَنْدَنَ ابن القيم في بحثه لهذه المسألة من كتابه «الصلاة وحكم تاركها»؛ ومعلوم أن المخالف في ذلك عامة أهل العلم، حتى ادعى بعض العلماء الإجماع عليه أيضا!!
([7]) وهي منشورة على موقع العبد الفقير.
([8]) ما سيُذكر هو المبادئ العامة للمحاضرة، فمن شاء التفصيل والشرح؛ فليرجع إليها.
([9]) هذه الفتوى كنتُ قد أشرتُ إليها في المحاضرة، ولم أنقلها -بنصِّها-.
([10]) «الفوائد العلمية من الدروس البازية» (2/273-274) -بواسطة مشاركة للشيخ أحمد بن يحيى الزهراني على «شبكة سحاب»-.
|